الرسائل الإعلامية التي يخطها من ينوبون عن "جون ماكين"، مرشح الحزب "الجمهوري" في انتخابات الرئاسة الأميركية تملأ الفضائيات كلها، وكافة صفحات الرأي. ومن بين الذين كتبوا عنه في صحيفة "وول ستريت" الصحفي "فريد بارنيس"، قائلاً إنه ليس على "ماكين" القلق بشأن عدم رضا قادة حركة "المحافظين" عن ترشيحه لمنصب الرئيس في الانتخابات الجارية لهذا العام. فعلى رغم تذمرهم الذي عرفوا به دائماً، فإنه يُعرَف عنهم أيضاً ولاؤهم لحزبهم والتفافهم حول مرشحه ودعمهم له في نهاية الأمر. وفي الصحيفة نفسها، نشر المؤلف الروائي "مارك هيلبرن"، الذي عمل مستشاراً سابقاً بحملة المرشح الرئاسي "بوب دول"، مقالاً قرّع فيه عدداً من القادة "المحافظين"لانتقادهم اللاذع لجون ماكين. وبحكم بقائي في معاقل حركة "المحافظين" والعمل المستمر في خدمة قضاياها وأهدافها طوال الثلاثين عاماً الماضية، يجوز لي زعم معرفتها معرفة جيدة ووثيقة، فضلاً عن إسهامي الشخصي في جمع مئات الملايين من الدولارات لصالحها. ولذلك فإنني آمل وبكل الصدق ألا يعير "ماكين" أذناً صاغية لهذه النصائح التي يقدمها له أمثال هؤلاء الكُتاب. ذلك أن في فحوى ما يكتبونه ويروجون له، خيانة عظمى وقراءة خاطئة لأهم مبادئ "المحافظين" في زماننا الحالي. وليس من شيمة القادة "المحافظين"، لا سيما أولئك الذين يشاركون منهم في البرامج الحوارية الإذاعية، التزام الصمت عما يجري. وفي الحقيقة، فإنه ينبغي لـ"جون ماكين" أن يجعل من هؤلاء النشطاء المحافظين "كتيبة" مساعدة له في أرض العراك الانتخابي الشرس الذي يخوضه هذا العام، مع العلم أنهم لن يقفوا إلى جانبه ويدعموا مساعي صعوده إلى البيت الأبيض في نهاية هذه الحملة، ما لم يصدقوه أولاً ويؤمنوا به. وربما استطاع "ماكين" حشد بعض "ببغاوات المحافظين" الذين يرددون أصداء ما يقول، إلا أنه لم يتمكن بعد من الحصول على "ذهب المحافظين" من الناشطين في قواعد الحزب، وهؤلاء ليسوا بضاعة تباع وتشترى في سوق المزاد الانتخابي. والمؤسف أن "ماكين" لا ينفك عن مهاجمة القادة النشطاء هؤلاء، عبر ببغاواته وتابعيه. ولئن كانت هذه الفئة الأخيرة قد تغلبت على جوهر حركة "المحافظين" الأميركية في شتى مراحل التاريخ القريب، فما أستطيع تأكيده هنا أن انتخابات العام الحالي لن تكون تكراراً لذلك التاريخ المخزي، بسبب نفاد صبر حركة "المحافظين" وقدرتها على تحمل الخيانات التي تجرعتها في ماضيها القريب، وهي سلسلة متتابعة من الخيانات. ففي عام 1988، على سبيل المثال، كان هناك عدد من المرشحين "المحافظين" المؤهلين لخلافة الرئيس رونالد ريجان في المنصب الرئاسي، نذكر من بينهم "بيت دو بونت" و"جاك كيمب"، و"بول لاكزولت"، و"بات روبرتسون" وغيرهم. وبدلاً من دعم المؤسسة "المحافظة"، وكذلك الطبقة السياسية المحترفة داخل الحزب لأي من هؤلاء المرشحين الأكفاء، التفّت حول الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، الذي لم يكن متوقعاً مجرد ورود اسمه في قائمة مرشحي حركة "المحافظين"، قبل ثماني سنوات سابقة لذلك التاريخ. وتمكن بوش الأب من كسب تأييد القاعدة الشعبية "المحافظة" له في حملة ترشيحه للرئاسة، اعتماداً على شعار "لا مزيد من الضرائب بعد اليوم" الذي جعل منه عنواناً رئيسياً لحملته. وهكذا صعدت به القاعدة "الجمهورية" الناخبة إلى مقاليد الحكم في البيت الأبيض في شهر نوفمبر عام 1980. ولم يمض سوى عامين فحسب من توليه الرئاسة، حتى حنث بوعده الانتخابي، لتسجل الضرائب أحد أعلى معدلاتها التاريخية. وفي أعقاب تنفيذه لحرب الخليج الأولى في عام 1991، أهدر بوش معدل تأييد شعبي له بلغت نسبته 91 %. وإيجازاً لم يفعل بوش الأب شيئاً ذا بال في خدمة الأهداف "الجمهورية المحافظة". فلم تنخفض الضرائب كما وعد، بل ازدادت زيادة جنونية، كما لم يلجم جماح الإنفاق الفيدرالي، إلى جانب عجزه عن فعل ما يذكر على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. ثم تكررت الخيانة نفسها في عهد جورج بوش الابن، بعد أن منحه الناخبون المحافظون ثقتهم إثر ثماني سنوات من فساد إدارة بيل كلينتون، ليتولى المنصب الرئاسي منذ عام 2000. وقد صعد نجمه في بادئ الأمر بسبب تنفيذه لوعود خفض الضرائب التي قطعها على نفسه، ليغدو أكثر بريقاً وتلألؤاً إثر التفاف الشعب الأميركي كله حوله، بصفته قائداً أعلى للجيش بُعَيدَ هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. واستطاع تأمين ولاية ثانية له، بفضل الدعم الذي حظي به من قبل الملايين من الناشطين "المحافظين" الذين كرسوا جهدهم الطوعي لإلحاق الهزيمة بمنافسه جون كيري في انتخابات إعادة الترشيح في عام 2004. لكن وعقب إعادة ترشيحه مباشرة، سرعان ما تبخرت أي آمال في أن يدفع بوش بأجندة "المحافظين"، وأن يظل وفياً لقيمها ومبادئها كما رأينا. وبالنتيجة، فقد تمردت عليه القاعدة "المحافظة" في نهاية الأمر، بسبب خلافها الجوهري معه حول ترشيحه لـ"هاريت مايرز"، لرئاسة المحكمة العليا، وكذلك بسبب قرار العفو الذي أصدره بحق الملايين من المهاجرين غير الشرعيين، ما يمنحهم حقاً ليس لهم في الحصول على الجنسية الأميركية... أضف إليه سلسلة الفضائح المالية والسياسية التي لحقت بإدارته. وبسبب هذه التراكمات مجتمعة، فقد كان منطقياً أن تنشأ هوة لا قرار لها بين الحزب "الجمهوري" والقاعدة الشعبية للحركة "المحافظة". وهي الهوة التي أوصلتنا إلى الهزيمة الماحقة التي منينا بها في انتخابات الكونجرس عام 2006. فهل من سبيل لرأب الصدع وردم الهوة؟ هذا ما يعطي السؤال التالي أهمية حاسمة في الانتخابات التمهيدية الرئاسية الجارية حالياً: أي المرشحين "المحافظين" أكثر قدرة على أن يخلف الرئيس رونالد ريجان؟ وفي مسعى الحصول على إجابة عن هذا السؤال، فإن من سخرية أقدار الحزب "الجمهوري" وحركة "المحافظين"، أن يصل جون ماكين إلى نهائيات الترشيح بجدارة، وهو الأدنى كفاءة بكثير من أن يخلف ريجان! وأهم ما يلاحظ عليه، تناقض شعاراته الانتخابية مع كافة مواقفه وسياساته العملية. فهو مثلاً يدعم أبحاث الخلايا الجذعية، ويعد بجعل التخفيضات الضريبية التي أقرها بوش تخفيضات دائمة، على الرغم من تصويته ضدها في الكونجرس. وإذا ما تأملنا وعود "ماكين" بأن يرسم للحزب "الجمهوري" مساراً جديداً في تاريخه الحديث، فإننا نجد أنه يظل أسيراً للماضي حتى النخاع. وبما أن "ماكين" قد فاز بتأييد الحزب "الجمهوري" لترشيحه النهائي لخوض المعركة الانتخابية الرئاسية عنه في شهر نوفمبر المقبل، فما الذي ينبغي عليه فعله حتى يظل أميناً ووفياً لمبادئ الحركة "المحافظة"؟ لن ينفعه في ذلك شيء، مجرد بيعه للشعارات المحافظة من شاكلة:"فأنا لست هيلاري كلينتون ولا باراك أوباما". كما لا يفيده في شيء، مجرد الاكتفاء بمغازلة عواطف "المحافظين" وترديد الكلمات التي تروق لهم. وبالمقارنة فإن القاعدة الليبرالية للحزب "الديمقراطي"، تكاد تحترق إلهاماً وحماساً بفعل حيوية صراع مرشحيها. وهذا ما ينبغي على "ماكين" فعله على قدم المساواة في القاعدة الشعبية لحزبه، إن أراد أن يكسب تأييد "المحافظين" له ودعمه في مسعاه الرئاسي. وعلى وجه التحديد، فإن عليه أن يبتدر استراتيجية واضحة وشاملة لكيفية إلحاق الهزيمة بالتطرف الإسلامي، فضلاً عن تقديمه لخطة واضحة لكيفية إعادة بناء البنية التحتية للجيش الأميركي، بعد كل الدمار الذي حاق بها جراء سنوات إدارة كلينتون. ويتضمن هذا الواجب تأمين الحدود الأميركية بكل ما يعنيه هذا الواجب من مهام وتشعبات، وبما يستوجب استنهاض الشعب الأميركي كله، وليس الجيش وحده لحماية وتأمين أراضي الولايات المتحدة. ولن يتحقق له هذا بالطبع إلا بجعل هذا الهدف أداة لاستقطاب الشعب الأميركي كله للحركة الطوعية القومية. وإن كان "ماكين" ممن يؤمنون حقاً بقيم الحرية، فعليه أن يحرر شعبه من نير الضرائب الذي يرزح تحته. ومن أكبر التحديات التي تواجه "ماكين"، تقليص الجهاز الحكومي الفدرالي ورفع مستوى كفاءته، بما يؤدي إلى تقليص حجم الإنفاق الفدرالي العام. ومن تحدي التحديات إظهار "العين الحمراء" لليبراليين في الكونجرس، ومنعهم من المناورات وعرقلة الخطط والتشريعات التي تقترحها إدارته، إن كان له الفوز بالمنصب الرئاسي في انتخابات نوفمبر المقبلة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إل. برينت بوزيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس مركز البحوث الإعلامية-ولاية فرجينيا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"